أم المؤمنين عائشة.. نسوية مارست الحق في التعليم وعلمت الرجال والنساء
حقوقيات في زمن النبوة "2"
الأم مدرسة، إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق، وليست هناك مدرسة تُشكل وعي امرأة أفضل من مدرسة النبي محمد بن عبدالله وصاحبه أبي بكر الصديق.. فيها نشأت المعلمة الأولى في الإسلام، والفقيهة ذات المرجعية الأهم لدى الصحابة المدونين للأحاديث، والسائلين في المسائل الفقهية المختلفة.
فليس الأمر كما صورت الميديا المرأة في الإسلام على أنها مجرد متاع، حتى ليخيل أن المجتمع الإسلامي الأول قد قام بالرجال دون النساء، فاستأثر الرجال بكل شيء وتركت النساء للبيوت وتربية الأولاد.
بالطبع ذلك دور عظيم، إلا أنه لم يكن دورهن الأوحد، لم تكن المسلمات كالدجاج في العش، بل كن رائدات صاحبن الرجال في مسيرة الحضارة كتفا بكتف وقدما بقدم، وعلى رأسهن أم المؤمنين السيدة عائشة.
فالرجال الذين دونوا الحديث أخذوا مجمله من عائشة، ومن تعلموا الفقه تفقهوا على يدها أيضًا، والنساء اللواتي حضرن دروس العلم في المسجد النبوي، وكن جزءا فاعلا في النسيج المجتمعي للمجتمع الناشئ حتى ضجت غرف أمهات المؤمنين بالمتفاعلات والسائلات -فكانت تلك الغرف أشبه ما تكون بالمنتديات الثقافية تعج بالحياة والأسئلة والأفكار، حتى إن السيدة عائشة كانت تقول: “نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن حياؤهن أن يتفقهن في الدين”- حملن الرسالة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعملن على حمل العلم ونقله جيلا بعد جيل حتى وصل التفاعل الثقافي في المجتمع المسلم.
وبعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- استمر إقبال الصحابة على منزل النبي ليأخذوا دينهم عن السيدة عائشة ويسألوا عما غمض عنهم، فيقول عنها أبو موسى الأشعري: "ما أشكَل علينا أصحابَ رسول الله حديثٌ قط، فسأَلنا عائشةَ إلا وجَدنا عندها منه عِلمًا".
وبخلاف دور أم المؤمنين في حفظ السنة النبوية وتفقيه المسلمين، إلا أنها أيضًا مارست بوعي الحق في التعليم، الذي هو حق من حقوق الإنسان في حد ذاته، وهو في نفس الوقت وسيلة لا غنى عنها لإعمال حقوق الإنسان الأخرى.
والتعليم حق تمكيني، ووفقًا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة هو الأداة الرئيسية التي يمكن بها للكبار والأطفال المهمَّشين اقتصاديًا واجتماعيًا أن ينهضوا بأنفسهم من الفقر، وأن يحصلوا على وسيلة المشاركة كليًا في مجتمعاتهم.
وللتعليم دور حيوي في تمكين المرأة، وحماية الأطفال من العمل الاستغلالي الذي ينطوي على مخاطر، وكذلك من الاستغلال الجنسي، وفي تشجيع حقوق الإنسان والديمقراطية، وحماية البيئة، ومراقبة نمو السكان، ويُعترف بالتعليم بشكل متزايد بوصفه واحدًا من أفضل الاستثمارات المالية التي يمكن للدول أن تستثمرها.
ولكن أهمية التعليم ليست أهمية عملية وحسب، فالعقل المثقف والمستنير والنشط القادر على أن يسرح بحرية وإلى أبعد الحدود هو عقل ينعم بمسرّات الوجود ومكافآته.
لقد سبقت أم المؤمنين غربيات في نزول ساحة العلم والتعلم، مثل آدا لوفلايس (1815- 1852) بنت الشاعر لورد بايرون، وكانت عالمة رياضيات وتعد أول مبرمجة حاسوب في التاريخ قبل ظهور الحواسيب بشكلها الحديث، وروزا باركس، أمريكية من أصول إفريقية (1913- 2005) وهي ناشطة طالبت بالحقوق المدنية للأمريكيين الأفارقة، وماري كوري (1867- 1934)، عالمة فيزياء وكيمياء بولندية المولد، وغيرهن.
فقيهة الأمة
كانت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- من أكبر فقهاء الصحابة، والمرجع الأول في الحديث والسنة، والفقيهة الأولى في الإسلام، وكان فقهاء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجعون إليها في المعضلات فيجدون عندها الأجْوِبة، وقد تفقه بها جماعة من الصحابة والتابعين وحدَّثوا عنها.
وكان لقرب عائشة -رضي الله عنها- من رسول الله ﷺ دور كبير في كثرة مروياتها حديثا وإفتاء، وقد أكثرت من رواية الأحكام الفقهية حتى قال الحاكم النيسابوري (ت 405هـ/1015م) -فيما ينقله عنه الإمام بدر الدين الزركشي (ت 794هـ/1396م) في كتابه الآتي ذكره- أنها “حُمل عنها رُبع الشريعة”، ومجمل مرويات عائشة من صحيحيْ البخاري ومسلم حوالي “مئتين ونيفا وسبعين حديثا لم تخرج غير الأحكام منها إلا يسيرا”، وجمع الشيخ سعيد فايز الدخيل فقهها وفتاواها في مجلد ضخم سماه: ‘موسوعة فقه عائشة أم المؤمنين.. حياتها وفقهها‘.
ومن جهودها في حفظ الدين وخدمة السنة النبوية، وفقًا لكتب السيرة، أنها كانت حريصة على بثِّ ما عندها من علم وعدم كتمان ما سمعته في بيت النبوة من الحكمة والموعظة الحسنة، فحفظت للأمة بضعة آلاف من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها 2110 أحاديث في الكتب الستة.
وممن روى عنها من الصحابة: عمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، والسائب بن يزيد، وزيد بن خالد الجهني وغيرهم رضي الله عنهم.
وممن روى عنها من التابعين: مسروق بن الأجدع، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد النخعي، وسعيد بن المُسيِّب، وعبدالله وعروة ابنا الزبير (ابنا أختها)، والقاسم بن محمد بن أبي بكر (ابن أخيها)، ومُطرِّف بن عبدالله بن الشِّخير، وعمرو بن ميمون، وخلقٌ كثير.
عائشة والفتوى
وأم المؤمنين عائشة، أعدها مؤرخو الفتاوى ضمن الصحابة السبعة المكثرين في الفتوى، وذلك لأنها كانت "أفقه نساء الأمة على الإطلاق"، كما وصفها ابن القيم في "إعلام الموقعين"، وقال عنها الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في "سير أعلام النبلاء":"لا أعلم في أمة محمد ﷺ -بل ولا في النساء مطلقا- امرأة أعلم منها".
وكثيرة هي الأبحاث والكتب التي التي أثبتت استقلال عائشة بالفتوى رضي الله عنها، لأنها أيضا حسبما أثبته صاحب "الطبقات الكبرى" ابن سعد البصري (ت 230هـ/845م) "استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وهلمّ جرا إلى أن ماتت"، و”كان الأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ عمر وعثمان بعده يرسلان إليها فيسألانها عن السُّنن”.
وقد اشتهرت عائشة بفتاوى استقلت بها وآراء فقهية انفردت بها، ومن ذلك انفرادها بفتوى عدم التفريق بين ولد الزنا وغيره في إمامة الصلاة ما دام هو الأقرأ لكتاب الله والأفقه في الشرع، إذْ “ليس عليه من خطيئة أبويه شيء، لا تزر وازرة وزر أخرى”.
ومن انفراداتها النسوية قولها بجواز سفر المرأة بدون محرم مطلقا إذا أمنت على نفسها من الفتنة، فـ”عن الزهري قال: ذُكر عند عائشة المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، فقالت عائشة: ليس كل النساء تجد محرما”.
ويلاحظ الشيخ سعيد الدخيل -في كتابه عن فقه عائشة، أن كثيرا من فتاواها “ينطلق منها بصفتها أنثى فقيهة متميزة، لأنها عاشت مع الرسول صلى الله عليه وسلم تحت سقف واحد، وعلمت منه ما لم يعلمه غيرها من الرجال”.
لم يكن دور عائشة الفقهي مقتصرا على الإفتاء والتحديث بالسنن فحسب، بل كانت تناظر الصحابة وتستدرك على فتاوى كبارهم مثل أبيها أبي بكر الصديق وعمر الفاروق، وقد جمع الإمام الزركشي استدراكاتها على الصحب الكرام في سفر ممتع بعنوان: ‘الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة‘.
كما خرَّجت عائشة مفتياتٍ مارسن الإفتاء بعدها، وأخذ عنها الفقه والعلم خلق كثير بعضه من نساء أهل بيتها مثل: أختها أم كلثوم وحفصة بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 58هـ/679م).
وممن تخرجن على يد عائشة وحملن راية الإفتاء بعدها: “عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية تريبة عائشة وتلميذتها، وكانت عالمة فقيهة حجة كثيرة العلم”، و”صفية بنت شيبة أم منصور الفقيهة العالمةالقرشية”، و”أم الدرداء الصغرى.. الفقيهة (ت بعد 81هـ/701م)، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد”، وقد اتفق العلماء “على وصفها بالفقه والعقل والفهم والجلالة”، كما يقول الإمام النووي في ‘تهذيب الأسماء واللغات.
علمها
هي المعلمة الأولى في الإسلام، تعلم علي يدها العديد من أصحاب رسول الله، فشهد لها الرسول الكريم بفضائلها التي لا تنتهي، فعلى الرغم من صغر سنها، إلا أنها كانت ذكية سريعة التعلم، ولذلك استوعبت الكثير من علوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصبحت من أكثر النساء رواية للحديث.
السيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما هي أم المؤمنين السيدة عائشة بنت أبي بكر بن قحافة، الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، وكنيتها أم عبد الله، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، ولدت في الإسلام، بعد البعثة النبوية.
تقول دار الإفتاء المصرية، في تقرير عنها نشرته على موقع الدار، إنه لا يوجد في نساء أمة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- امرأة أعلم منها بدين الإسلام، ومما يشهد لها بالعلم قول أبي موسى رضي الله عنه: "ما أشكل علينا أصحاب محمد حديثا قط فسألنا عائشة، إلا وجدنا عندها منه علما"، رواه الترمذي.
وقيل لمسروق: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: “إي والذي نفسي بيده، لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- يسألونها عن الفرائض”، رواه الحاكم.
وقال الزهري: “لو جمع علم نساء هذه الأمة، فيهن أزواج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان علم عائشة أكثر من علمهن”، رواه الطبراني.
وإلى جانب علمها بالحديث والفقه، كان لها حظ وافر من الشعر، وعلوم الطب، وأنساب العرب، واستقت تلك العلوم من زوجها ووالدها، ومن وفود العرب التي كانت تقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فضائلها
السيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، هي ثالث زوجات النبي، بعد السيدة خديجة والسيدة سودة، وكانت رضي الله عنها صوامة قوامة، تكثر من أفعال البر، ووجوه الخير، وقلما كان يبقى عندها شيء من المال، لكثرة بذلها وعطائها، حتى إنها تصدقت ذات مرة بمئة ألف درهم، لم تبقِ منها شيئا.
وقد شهد لها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالفضل، فقال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»، متفق عليه.. ومن فضائلها قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- لها: «يا عائشة، هذا جبريل يقرأ عليك السلام»، فقالت: “وعليه السلام ورحمة الله وبركاته”، متفق عليه.
أم المؤمنين عائشة في القرآن
ومن بركات السيدة عائشة، رضي الله عنها أنها كانت السبب في نزول بعض آيات القرآن، ومنها آية التيمم، وذلك عندما استعارت من أسماء رضي الله عنها قلادة، فضاعت منها، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بعض أصحابه ليبحثوا عنها، فأدركتهم الصلاة ولم يكن عندهم ماء فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- شكوا إليه، فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير لعائشة: "جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا، وجعل للمسلمين فيه بركة"، متفق عليه.
وعندما ابتليت رضي الله عنها بحادثة الإفك، أنزل الله براءتها من السماء قرآنا يتلى إلى يوم الدين، قال تعالى: ﴿إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ۞ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ۞ لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون﴾.
وفاتها
توفيت رضي الله عنها سنة 57، عن عمر يزيد على 63 سنة، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه، ثم دفنت بالبقيع، ولم تدفن في حجرتها بجانب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأبيها رضي الله عنهما، فقد آثرت بمكانها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرضي الله عنها وعن جميع أمهات المؤمنين.